الجمعة، ٢٢ شباط ٢٠١٣

حوار شيق مع الأديبة المتمردة المتألقة دائما غادة السمان


معلنة عن عودتها قريبا للصحافة

 غادة السمان: من أجل عروبتي لتذهب جميع المكاسب إلى الجحيم!..

حوار: جنات بومنجل
مجلة الإعلام والعصر 

حين جاءني صوتها من بعيد بدا تماما كحرفها حميمي وصادق ونافذ الى القلب، غادة الحرف وسيدة اللغة الأولى، تربينا على حروفها وعلى أوجاعها الكتابية وعلى اتكائها على الحقيقة في كل نبض تزرعه على الورق فيضيء عبقا وعبيرا..حين بدت علاقتنا بالحرف و انحيازنا الجميل نحو البياض خطونا بدء عثراتنا في الكتابة والقراءة استنادا لروايتها وكتابتها الثائرة  ظلت تحتل صدارة المشهد الابداعي لسنوات طويلة ولازالت، اسالت الكثير من حبر النقد ومتابعة الصحافة .
 في البداية كان كل ما أرغب فيه تواصل أدبي جميل لمقاربة فضاءات الابداع لديها، تواصل أشبع فيه نهمي وفضولي لمعرفة آخر أخبارها ، كيف تعيشهذه السيدة الارستقراطية في حزنها وجراتها ، كيف تعيش تفاصيل يومها في غربتها الباريسية ، هل تكتب بذات النهم الذي عرفناها به منذ سنوات طويلة ،هل لاتزال المطارات تشي بحكاياها؟، ثم تحول الفضول الى الرغبة في إجراء حوار طويل اتفقنا عليه دون مناقشة خطوطه العريضة ، وقد أبدت بكريم جميل رغبتها في الحديث والرد على كل الاسئلة دون أي تردد أو حذف أو تحفظ، غادة السمان الأديبة التي أحتفظ لها في مكتبتي وفي قلبي و ذاكرتي بالكثير ، كانت أكثر التزاما بوعدها في وصول الرد في وقته المناسب ، مع اعتذار جميل بإسهاب أسعدتني أيما سعادة ، حاولت أن أنقل في هذه المساحة من السؤال والجواب ، آخر أخبارها ، أسرارها ، أمنياتها ، خيباتها ، قلقها، أرقها، وحدتها، طقوسها ، صديقها البوم الوفي ، زوجها الجميل الراحل، والكثير من الأشياء التي أجدها مختلفة في هذا الحوار وأثق أنه سيكون ممتعا وجميلا برهان إسمها وتاريخها وابداعهاومشوارها الطويل في عوالم الكتابة ومجابهة الموت بالأبجدية .، فكان هذا الحوار :

·       من أين أبدأ والبدء كان كلمة ؟ هل يمكن لي أن أعود بك إلى هناك حيث دمشق المولد والوطن وبدء الخطى؟ أي ذكريات تحتفظين بها عن البدايات، عنعوالم الطفولة ؟
لن أضجر  من الاعتراف منذ ربع قرن وأكثر : دمشق مسقط قلبي.
مدينة دمغتني بكل ذكرى عشتها فيها، وعلمتني دروسا وأنا طفلة حتى مطلع العشرينات من عمري حين ودعتها وغادرتها بعد شجار مجنون من ( شجارات ) العشاق ولم أعد  بعدها أبدا.
افترقنا وبقيت تقيم في قلبي بأزقتها القديمة وطقوسها اللامنسية وأحن إلى بيت جدي في " زقاق الياسمين " خلف الجامع الأموي ، ولعل بابه العتيق لن يتعرف عليّ اذا عدت اليوم وقرعته .
رحيل أمي وهي في الثلاثين من عمرها وأنا طفلة صغيرة علمني هشاشة وجودنا في هذا الكوكب، وصرت أكتب كأنني سأموت غدا، وكانت أمي أديبة نشرت القليل باسم مستعار ولم يمهلها الموت – ولا المجتمع الشامي المحافظ لعطاء أدبي كبير ، وقد علمت بذلك عبر القصائد التي ألقيت في حفل تأبينها وطالعتها حين كبرت ومن بينها قصيدة لقريبي الشاعر الشاب الناشئ يومئذ نزار قباني الذي سحره أدبها ومجلسها وقد نشرتها في " مجلة الحدواث " منذ عامين وهي بخط يده.
دمغني أيضا حنان أبي وتعلمت عبره أي كنز عطاء دافيء بالمحبة يختزنه الرجل العربي وذلك حماني في دعوتي لتحريرالمرأة من معاداة الرجل فقد تعامل بإيجابية حنان الأم مع أخطائي الفادحة في مراهقتي ومع أبجديتي ، ولأن أبي كان يصطحبني منذ رحيل أمي وتعلمي المشي إلى أي مكان يرتاده بهرتني مجالسة الكبار المفكرين والأدباء والعلماء من أصدقائه أساتذة الجامعات مثله وأرغمني على النضج مبكرا لمجاراتهم، وهكذا حين قدم لي أحد الوزراء من أصدقاء أبي قطعة من الشوكولاطة ورفضتها سألني ضاحكا : ألم يعودك والدك على أكلها ؟ وأجبته مدافعة عن أبي بضراوة ، ولماذا لا تقول أني سئمتها لكثرة ما أطعمني إياها. ومن يومها صرت عضوا في حلقة رفاق أبي وأنا طفلة وتعلمت منهم وتلك الخبرات ساعدتني على الوقوف على قدمي بعد عثراتي الكثيرة والموت أنضجني في فرنه ( تنوره ) باكرا كالأيتام الصغار كلهم.

·       دمشق بعثت بك إلى بيروت لتعيشي الوجع الإنساني الأعمق، أعرف أن علاقتك ببيروت لم تنقطع أبدا ، كيف تجدينها الآن ؟ هل مازالت صباحاتك فيروزية ؟ هل تغير الغربة من ذائقتنا ؟
نعم تغير الغربة الطويلة من ذائقتنا ، لكنها تزيدنا تعلقا بالابداع الحقيقي والأصيل في وطننا ونفورنا من السطحي المزعوم ، ومن غناء الأرداف والهراء العاري والاصوات النشاز وبالتالي مازالت المطربة الكبيرة فيروز صديقة القلب وأغنياتها صنو الروح ، ويستفزني ماكتبه أحدهم في منبر مقروء منتقدا ( ثيابها العريضة ) وأتساءل مالذي ضايقه في أناقتها المحتشمة وكانت كذلك منذ بدايتها كشابة؟ ولماذا يريد من مطربة حقيقية مبدعة كفيروز أن تتكيء على غير جماليات صوتها وأسلوبها الاستثنائي في الأداء؟.

·       "مع كل كتاب أخطه أموت قليلا "، بعد هذه العطاءات الكثيرة، كيف تعيشين هذه اللحظة / الموت لأجل انبعاث نص؟.
أكتب كل نص بكثير من محاولة الإتقان المستحيل، وكما لو أنني سأموت بعد كتابته أو خلال ذلك، فالموت أستاذ التقتيه في غرفة احتضار أمي وهو أستاذ يكتب لي كل لحظة على سبورة العمر" انزفي اليوم ماعندك " وهو للأسف أستاذ كبير لكنه يقتل تلاميذه جميعا وأعرف أنه قاتلي وأحاول مقاومته بالأبجدية كعين تقاوم المخرز، أجل أحاول قتل الموت بالأبجدية وفي نفق الألم أتسلل خلسة إلى قلوب الآخرين المتألمين سراً مثلي، أموت كثيرا ولكنني أنهض من رمادي لأستمر.
·       تحدثت في كتابك القبيلة تستجوب القتيلة عن حوارات صحافية كثيرة لم تدل بها ولم تكتبيها ولم تعلمي بمعظمها إلا مصادفة حتى أن بعضها متقن وجزء منها  بتوقيع بعض وكالات الأنباء ، حدثينا عن ذلك ؟

أجمل تلك الأحاديث التي لم أدل بها ولكنها تحمل ايقاع حرفي وقلبي ما سطره الشهيد الكبير الراحل غسان كنفاني غير مرة وتجدين بعضها في كتبي المخصصة لمحارواتي مع رفاق القلم : " القبيلة تسجوب القتيلة – البحر يحاكم سمكة – وسواها مثل " ستأتي الصبية لتعاتبك " بالذات.
ولو استجوبني غسان كنفاني يومئذ مباشرة لما قلت شيئا آخر ولما قلت ماهو أفضل مما خطه يراعه المبدع.
·       يقول عبدالله باجبير / كاميرا غادة السمان  تشبه آلة الزمن ، تعيد الماضي وتستحضر المستقبل وتشبه نظارة الأشعة السينية تصور ما تحت ملابس الناس وتحت جلودهم ؟ من أين اكتسبت هذه العين الثالثة ، هل يستشرف المبدع المستقبل، وهل تتحقق نبوءات الأدباء ؟
كاميرا عبدالله باجبير الابداعية تشبه أيضا الأشعة السينية في معظم ما يخطه قلمه الجميل ، فالكاتب الصادق مع حرفه لا يخط بالضرورة صوت القبيلة الجماعي ( الرأي العام )  وقد يرحب ببعضه في دورته الدموية محتفظا بحريته في النظر إلى الاشياء بعينه الجديدة .
وتلك العين الجديدة عندي غير المرتهنة لأحد غير الصدق ، هي التي رأت صيف 74 بيروت بركانا سريا سينفجر قريبا وهو ماسطرته في روايتي :" بيروت 75" وللأسف الشديد صحت نبوءة العرافة في تلك الرواية حين قالت " أرى دما ..كثيرا من الدم " وبعدها انفجرت الحرب ربيع 1975 وهربنا من بيتنا الذي صار موقعا حربيا خلال " حرب الفنادق " وأقمنا لفترة في فندق " ماي فلاور " في " الحمراء " التقيت مصادفة في المصعد بالصديق الشاعر محمود درويش وكان قادما لزيارة ( مهجّرين ) مثلنا وسألني كيف حددتِ موعد انفجار بيروت بدقة وبالذات عام 1975 فقلت له ضاحكة : إنه سر المهنة .. إنها العرافة.
وربما لذلك صدرت منذ أشهر الترجمة الرومانية للرواية ( ترجمتها رالوكا موينتا – 22 سنة ) واختارتها من بين ما قرأته في روايات عربية وأسعدني ذلك ، كما سبق وأن صدرت هذه الرواية مترجمة إلى الإنجليزية ( حيث فازت بجائزة ) والألمانية ( في طبعتين واحدة منها في سلسلة " كتب الجيب" الواسعة الانتشار " والى الايطالية والفرنسية والاسبانية وسواها.
والمتفرس في رواياتي سيجد في كل منها عرافتي " خاتون " وهي تتنبأ بكوارث عربية ستقع والمؤسف أن ذلك يحدث دائما حتى أنني بدأت أخطط لقتل عرافتي في روايتي القادمة بعدما تحققت نبواءاتها في روايتي الأخيرة : سهرة تنكرية للموتى و لكن هل سيوقف قتلي لها الموت العربي الشاسع؟
·       ضاع منك مرة مخطوط رواية "السقوط الى القمة" في أحد المطارات الأوربية وضاع مرة أخرى - بعد أن إعادة كتابته - محترقا بصاروخ وقع على بيتك في بيروت، هل يتحدى الأدب قوة الرصاص والضياع ؟.
آه كم ضاعت مني روايات هنا وهناك ، في بيوت تشردت بينها ، في قارات قفزت في مطاراتها مثل كرة من التنس بين أصابع قدر عابث له مضرب لا يخطيء قلوب الأدباء، في حروب الاخوة الأعداء ، روايتي مثلا :" ليلة المليار" حملت مخطوطها معي بدلا من الثياب حين غادرنا بيروت في مركب المواشي صيف 1984 إلى مطار لارنكا (وكان مطار بيروت مغلقا ) والقصف ينهمر على المركب ونجت الرواية ونجونا، روايتي كوابيس بيروت نسيت مخطوطها في الملالة المصفحة التي أنقذتنا من حريق بيتنا وصرت أركض كالمجنونة بعد نجاتي بحثا عن تلك الملالة لانقاذ روايتي ، على الرغم من كل ما مررت وسأمر به شعاري دائما أن تستمر أبجديتي عربية الروح والعين على الرغم -أو ربما بفضل- تلك الأحزان والتشرد ولوعاتي الكثيرة السرية جدا فأنا لا أقوم بترقيص أحزاني الشخصية وغيرها كحيوانات السيرك بل أنطوي عليها وأنطلق منها ( للاستمرارية ) في وجه أقدار تطحننا وتسرق كلماتنا على غير نحو بما في ذلك في المطارات وتحت لهيب الصواريخ.
نعم الأدب كما بقية الفنون الابداعية من رسم وموسيقى وسواها يتحدى كل شيء اذا كان صاحبه صادقا بل ويتحدى حتى الموت فالكتابة هي أحد أسلحة البشر في اغتيال الموت ولو على نحو رمزي قبل أن ينالنا .
من طرفي أعرف أنني سأعود الى الحياة -بعد موتي- كلما طالعتني ( صبية /شاب) قرأ كتابي بحب فالكتابة كما قلت لك اطلاق رصاصة على موتنا المحتوم جميعا ، موتنا الآتي : الحقيقة الوحيدة المؤكدة في عالم كل مافيه زئبقي ومراوغ.
·       القاريء العربي يقرأ غادة منذ سنوات طويلة ، كما أن القاريء الغربي يقرؤها من خلال نصوص كثيرة ترجمت إلى العديد من اللغات الأجنبية، كيف يتعامل هذا الاخير مع نصوصك ، هل هناك اختلاف في التعاطي ؟

ترجمت بعض أعمالي إلى سبعة عشرة لغة أجنبية بعضها على نطاق تجاري واسع والآخر على نطاق أكاديمي ضيق وثمة اختلاف لا في الرهافة بل في وجهة النظر العربية مقارنة بالغربية.
القاريءالغربي يطالعني غالبا بغض النظر عما اذا كنت أنثى أم لا ولطالما وصلتني رسائل من قراء غربيين تدعوني ( المستر سمان ) حيث يظنون أنني (الكاتب) ذكرا ، الغربي غالبا لا يبالي بأية اعتبرات غير القيمة الأدبية للكتاب ، بالذات مثلا في كتاب الجيب الصادر في ميونيخ عن روايتين لي " كوابيس بيروت وبيروت 75 كما كتب مترجم " بيروت 75"إلى الألمانية السوري الأصل توفيق سليمان عواد قائلا :" إن المعيار الأوحد لدرا النشر تلك هي الجودة الادبية لا مبالية بالمؤلفة / المؤلف وأنهم نشروا لنجيب محفوظ وبن جلون قبلي كعرب .

الناقد العربي قبل القاريء العربي يتساءل أولا عن صفات أصابع الكاتب ، امراة ؟ متزوجة ؟ مطلقة ؟ حرة ؟ كيف تجرأت على ذلك ؟ من سمح لها ؟ من دعمها ؟
دعم الدكتور بشير الداعوق لي، زوجي الحبيب لن أنساه فحين قررت اصدار رسائل غسان كنفاني أصدرها عن دار نشره العريقة وطنيا ( دار الطليعة ) ، قام بخطوة استثنائية تشهد تأييده لولادة :"أدب الاعتراف" العربيوالمراسلات المتوافر في الغرب كأمر عادي واحترامه للمرأة الكاتبة ولعملها .
فالراحل بشير الداعوق إسم كبير لايمكن الحديث عن أدبي دون ذكر فضله عليه ، بالمقابل لا يقل القاريء العربي عن الغربي رهافة في مطالعة النص الأدبي ( بعد إشباع فضوله الشخصي !) وتلك علامة نضج وثراء داخلي عربي.

·       كيف هي علاقتك مع التكنولوجيا، هل هي حميمية إلى حد يسمح لك بالتعامل مع أدواتها كشبكات التواصل الاجتماعي ( تويتر والفايسبوك وغيرها )؟.

·       علاقتي التكنولوجيا هي ببساطة، علاقة ( حب عذري) حميمة،  فأنا أشبه طائر البوم من حيث حساسيتي لضوء الشاشات الساطع منذ كنت صبية في دمشق وطلب مني الطبيب ارتداء النظارة السوداء لحماية عيني من أي ضوء ساطع.
وهكذا أعجز عن معاقرة أدوات الايمايل ،التويتر،الفايسبوك وسواها مع أسفي لذلك واعترافي بما قدمته التكنولوجيا على صعيد الترويج لكتبي.
شبكة أمازون " كانت أول من أهتم ببيع كتبي ( ببعض اللغات التي ترجمت اليها وعلى رأسها الانجليزية ) في كتب مثل" بيروت 75" و" كوابيس بيروت" " والقمر والمربع "وسواها من كتبي بالإنجليزية وكتابي الأخير المترجم للإنجليزية " الأبدية لحظة حب " صدر على شبكة أمازونإلى جانب طباعتهم للترجمة ككاتب ورقي.
وعلمت من الصديقة فضيلة الفاروقأن هناك مجموعة على " فايس بوك " تضعني " تحتب مجهر القاريء" وثمة أكثر من موقع لأكثر من مجموعة أنشاها محبي حرفي تضم تسعة آلاف قاريء وعدة مجموعات أخرى فيها تقريبا 11 ألف قاريء يطالعون يوميا فقرات لي كما كتبت لي العزيزة فضيلة ، وهو مالم أحلم به يوم كنت صبية صغيرة في دمشق تكتب كالمجنونة سرا ، كما حظيت بدعم ( الكتروني) من المرهفة الأديبة الشابة رنى سنداحة ومن الصديقة الاديبة الشابة عفيفة حلبي ، التي اهتمت منذ زمن بموقع على " الفايس بوك " لمحبي حرفي تكرمت شخصيا بتأسيسه ولن أنسى لها ذلك كما لن أنسى لقاءنا الأول مصدافة حين فوجئت بصبية جميلة صغيرة في مقهى ببيروت سألتني : ألست أنت غادة ؟ في البداية ترددت ثم اعترفت : هذه أنا ..
لقاء القلب مع الصابا من معاقرات المواقع الالكترونية كما الشبان أمر جميل وعصري ولم يعد أحد يكتب على ورق البردى ولا الألواح الطينية ولكن للأسف لا أستطيع محاوراتهن، فأنا بومة المحبة ولكن يتعب عينيها الضوء الساطع.
باختصار : التكنولوجيا هي الحاضر والمستقبل ومن ينكرها يكون مثل الاديب المصر  على الكتابة على ورق البردى الفرعوني في زمن اختراع الانترنيت.
الزمن سيمر، الأساليب تتغير، ولكن جموح القلب يجد دوما سبيله إلى قلوب أخرى بأدوات عصرية ويبثها جنونه ولوعاته المشابهة للوعاتها وجنونها، والطريف أنني أتفاهم مع بنات وأبناء الجيل الادبي الجديد على نحو أفضل بكثير مما استقبلني به أبناء جيلي وأشعر أن الشابات المبدعات والشبان يطالعونني على نحو أكثر اهتماما بإنجازي الأدبي وأقل تدخلا في حياتي الشخصية التي لم تعد تبدو اليوم مدعاة للصدمة بل صارات جزءا من روح العصر.
·       ما متسقبل الكِتاب من وجهة نظرك مع ما يحدث من تطور الآن في وسائل الاتصال ؟ هل سيحافظ على مكانته ؟.
·       البارحة في الطائرة في طريق العودة من سويسرا إلى بيتي الباريسي كانت إلى جابني في مقعد مجاور صبية تقرأ كتابا الكترونيا وبلمسة من اصبعها تقلب الصفحة ، لم يضايقني ذلك بل فرحت به ، ما الفرق بين أن تطالعني على الورق أو على الشاشة أو على الغيم أو على سطور قوس قزح مادامت تطالع كلماتي ويمتد ذلك الجسر المسحور من التواصل بين قلبي وقلبها وقلب أي قاريء أخر سواها.
·       متى تتحول المنافي الاختيارية إلى أوطان ؟حدثينا عن باريسوسويسرا ولندن ؟ ما تأثير هذه الأمكنة على كتاباتك ؟.
بالنسبة لي، لم تتحول تلك الأوطان الجميلة التي عشت فيها إلى وطني ، أحببت كثيرا لندن في اقامة دراسية طالت وبعدها روما ثم جنيف وزيوريخ ونيويورك ومدن أخرى غريبة جميلة أقمت فيها ، لكن دمشق بقيت في قلبي كما بيروت كما كل العواصم العربية الكثيرة التي أتاح لي حظي التعارف معها والتي أحلم بالتعارف معها، أنا بنت عربية ولن يكتب أحد على شاهدة قبري ذات يوم : أديبة فرنسية من أصل عربي أو كاتبة بريطانية أو سويسرية أو أمريكية من أصل عربي.
أنا عربية حتى أموت ولتذهب إلى الجيحم المكاسب الأخرى كلها التي قد أحظى بها إذا تنصلت من ذلك.
·       كلمينا عن تجربتك الصحافية، بداياتك, الأسماء الإعلامية المهمة التي عاصرتِ توهجها  وتظل راسخة في ذاكرتك منذ ذلك الزمن الجميل.
الأسماء الاعلامية التي عاصرت توهجها تلد كل يوم،إنها الأسماء الشابة المعاصرة والتي ستتألق عطاء بعد أن أموت ، لست من رعايا ( الزمن الجميل) الغابر فالزمن الجميل يولد على أصابع كل من يبدع في أي زمان.
ثمة أسماء راسخة في ذاكرتي ليس لأنها من الزمن الجميل الذي يتوهم البعض أنه لن يتكرر بل لأنها على الر صيد الشخصي منحتني الكثير .
ياعزيزتي الزمن الجميل هو الحاضر، والآتي ، الذكريات جزء من حياتنا ولكنها أيضا فخ أرفض السقوط فيه وحرمان نفسي من الاستمتاع بجماليات عطاء الجيل الشاب ، فالزمن المستقبلي الشاب المتوه062C حياة المتأجج دفقا هو الأجمل.

·       تقولين أن "الكاتب هو أكثر المقاتلين صمودا ..إنه يحاول أن يحمي دماغ الأمة من التدمير" ، هل مازال الكاتب العربي يحمل هذا الهم على عاتقه ؟ مالذي يعيقه ؟.
معظم الكتاب العرب يعرفون ذلك أكثر من أي وقت مضى ، لكن المعوقات تتكاثر وتتناسل مثلا انضمام بعض رفاق القلم إلى نادي "الكتابة الداجنة"، أو انتسابهم إلى "مدرسة الببغاوات" أو "مدرسة قمع رفاق الحرف".
ومنها يتخرج شعراء"مديح الباب العالي" الذين يحملون خطيئة تعويد بعض الحكام على تمجيد جمال أثوابهم وهم عراة ومنهم أهل الازدواجية الذين يتسخدمون المرأة في الساحات من أجل إنجاح الثورات ثم يرسلونها إلى المطبخ لتغلي القهوة للمهنئين بعد نجاح (الثورة) التي تستغني بعدها عن النساء إلا كرحم أو كطباخة .
هل تريدين أن أتابع : " معجم الأحزان : ؟
·       وصفت علاقتك بالصحافة بأنها علاقة حب مسكونة بالتوق والركض خلف المستحيل،حدثينا عن هذه العلاقة وتفاصيها وكيف واكب الإعلام مسيرتك الابداعية وأنت من أهل هذه المهنة والأدرى بشعابها.
كالكثير من الروائيين أنا مدينة للصحافة خاصة وللإعلام عامة بالشيء الكثير، لا أتحدث عن فضل الصحافة ووسائل الإعلام في تعريف القاريء العربي بكتبي فحسب ـ بل وعن أمر أبعد غورا - وهو أن عملي في الصحافة أتاح لي التعارف مع (الآخر) بالمعنى الشاسع للكلمة، أي بشرائح المجتمع كلها ، لا بعالمي الصغير الضيق كبنت شامية ، وتلك المعرفة الصحافية أطلقت سراح قلمي الروائي ، ولو لم أخرج مع الصيادين في موانيء بيروت لكتابة تحقيق صحافي لما كانت شخصية مصطفى الصياد مثلا في روايتي :" بيروت 75" ولو لم أذهب إلى مستشفى المجانين وسجن النساء وعرب اللهيب وأركب الحمار في وادي قنوبين مثلا الى حيث لا تصل سيارة لكتابة تحقيقات صحافية لما كانت نبوءة عرافتي خاتون في روايتي "بيروت 75 " بقرب انفجار حرب أهلية في بيروت ( صدرت الرواية صيف 1974 وكانت بيروت ترفل في الرخاء والغنج وانفجرت الحرب بعدها بأشهر ) وقولها أنها ترى دما ، كثيرا من الدم.. وللأسف صحت النبوءة.
كثيرون هم الأدباء العرب الذين عملوا في الصحافة وحقول الإعلام وعبرها تعلموا أبجدية القلبالانساني والطبيعة البشرية والأمزجة التاريخية والأراجيح العقائدية وكذلك بعض مشاهير الأدب الغربي، ثم إن الخيط بين وسائل الإعلام كلها وهمي يتأرجح في رياح الإبداع أو أنه من حرير تتجاوزه تيارات الإبداع أيا كانت أدواتها للتعارف مع قاع البشر أينما وكيفما كانوا .

·       قلت ذات مرة أن الطفل هو الصحافي الأول لأنه يقضي وقته في اكتشاف العالم من حوله . هل جربت غادة السمان أن تكتب للطفل ؟
ببساطة : لست موهوبة في هذا الحقل،وذلك لا يزيد ولا ينتقص من عطائي في حقل أخر ، وحتى شكسبير لم يكتب للأطفال ولا همنغواي ولا نجيب محفوظ.
بالمقابل ، وهذا سر أبوح به للمرة الأولى ، أعشق قراءة الكتب المبدعة الموجهة إلى الأطفال، أشتريها سرا وأزعم للبائع أنه لأولاد الجيران، وسأشتري فور زيارتي القادمة لبيروت كتاب الشاعر عبده وازن للأطفال الذي فاز بجائزة أدبية مرموقة ( جائزة الشيخ زايد للكتاب ) في هذا الحقل الرائع. وأشتري أيضا قصصا أجنبية للأطفال وحين يسألني البائع لأي عمر أريد القصص وأقول له : لأي طفل بين سن السابعة والسبعين!.
ومن أفلامي المفضلة تلك الموجهة للفتيان الصغار وكان زوجي يضحك كثيرا وهو يشاهدني مسمرة أمام شاشة التلفزيون وأنا أراقب فيلما من هذا النمط على الرغم من أنني كبومة ( متفائلة ) تتعب من ضوء الشاشات المسلط على عينيها.
·       الربيع العربي يمتد فصولا أخرى متنقلا من تونس وصولا إلى سوريا ومرورا بمصر واليمن وليبيا ، كيف تقرأغادة السمان هذا التحول في راهن الأمة العربية ؟كيف تعيشين هذه التحولات كمواطنة سورية وكمثقفة عربية ؟
لا أستطيع وضع الثورات كلها في سلة واحدة ، هذا أولا ثم إنني أتمنى أن لا يكون الربيع العربي خريفا ، فقد سبق لي في حياتي المديدة أن عانيت كثيرا من خيبة الأمل على الصعيد ( الثوري ).
حين قام القذافي بانقلابه في ليبيا كنت كاتبة ناشئة، في رصيدها ثلاثة كتب ( اليوم صار عددها 47 كتابا ) واستبشرت به خيرا ( نزار قباني وأنا ) لأنهم اشتروا في ليبيا كميات كبيرة من كتبنا ثم اكتشفنا أنهم قاموا بإحراقها ولذا اشتروها ، وهكذا كان أول ما قام به ثواره ( هو احراق كتب قريبي قباني قبل كتبي في الساحة العامة !!).
ولذلك حين دعيت فيما بعد للقاء أدبي شامل مع الحاكم اعتذرت وأعلنت في حوار صحافي ما كتبته للصديق الراحل المبدع الليبي الدكتور خليفة التليسي :" هل جسدي مسموح في ليبيا في ظل الثورة وفكري ممنوع ؟" ولم أذهب يوما إلى ليبيا في حقد أدبي مباح على الرغم من أن الأديب الكبير الراحل التليسي حاول تعويضي أدبيا على ذلك الأذى المعنوي بشراء " الدار العربية للنشر " كميات كبيرة من كتبي وتوزيعها على المكتبات وكان مديرا للدار ، وهو ما أعجز عن نسيانه ، ناهيك عن اهدائه لي ترجمته الرائعة لقصائد لوركا ، والمجال لا يتسع لذكر المزيد من خيباتي ومن أمالي الدائمة ، ولذا أكتب الآن أيضا مذكراتي كشاهدة على حياة عربية وسياسية وحقبة زلزالية وقد انشرها قبل اصدارها في كتاب على منبر صحافي راق ، فأنا أعشق التواصل مع القاريء عبر الصحافة كما عبر الكتب.
·       هل تعيدين قراءة كتبك اليوم ؟ هل هناك ما ندمت على نشره منها ؟
أنا مضطرة لاعادة قراءة كتبي لاعدادها لطبعات جديدة.
أعيد الآن مثلا قراءة كتاب:" أعلنت عليك الحب " من أجل الطبعة رقم 14 من الكتاب وكذلك الطبعة 14 من قصصي " عيناك قدري" وأعيد أيضا قراءة " الحب الافتراضي" ، و"عاشقة في محبرة" لطبعات جديدة.
لا أندم على ما نشرته ، ليس لأنه هائل الجودة ، بل لأنني مقتنعة وصادقة في كل ماسطرته لحظة كتابته .
المرء لا يرضى كما كتبه في أمسه ولكن ليس بوسعه اصدار طبعة يومية عن كتبه !!
وبصدق  أندم على ما لم أكتبه وليس على ما كتبته ، لكنني دوما أتطلع إلى كتابة ماهو أفضل بكثير ولذا أتابع الكتابة.

·       نشرت رسائل غسان كنفاني ، الأمر الذي أحدث ضجة كبيرة أنذاك وانقسم المتلقي العربي بين من يؤيد حرية الكاتبة في نشر ما تعتبره ابداعا وبين من يرفض لاعتبارات كثيرة أهمها أن غسان كنفاني بمنجزه التاريخي والإبداعي اللافت يستحق أن يظل كذلك في عيون عارفيه وأن نشر رسائله بعد استشهاده انتهاك لخصوصيته واهانة لهذا الرمز ، بعد كل هذه السنوات  هل ترى غادة السمان أن تلك الخطوة كانت صائبة ؟
غسان كان ينشر رسائله لي على صفحات الصحف ويقوم بقراءتها على الأصدقاء معلنا حبه، وبالتالي أنا لم أبح بسر ،ثم إنني توهمت أن خطوتي هذه ستشجع سواي على سد النقص العربي في حق أدب المراسلات والاعتراف ، وللأسف كنت مخطئة، وحدث العكس ولم يجرؤ أحد خلال العقدين الماضيين على مجاراة خطوتي  والغضبة ( المضرية ) والحملة الصحافية عليّأخافت الكثيرين ، لكنها ببساطة لم تخفني ، ولأن أحدا سواي لم يتقدم ( لتعليق الجرس)  سأوقم أنا بذلك وسأتابع نشر رسائل المبدعين الراحلين لي ، وليكن ما يكون ، ثمة حروف جميلة في الأدب العربي لا يحق لأحد احراقها أو حذف كلمة منها ، سأقوم من طرفي بنشرها وأعرف أنه سيأتي في المستقبل من يساهم بذلك ، لقد سبقنا كثيرا الغرب في حقل نشر رسائل المبدعين واعترافاتهم أما عندنا فقانون الازدواجية يحول بيننا وبين نشر الحقيقة . وكم أثار الراحل الكبير سهيل ادريس غضبا حين كتب في مذكراته حقيقة والده ، إنه الرائد الأول في قول الصدق في صفحات مذكرات عربية.

·       حدثينا عن طقوسك اليومية ، متى تكتبين ؟ ماالذي يوجد هناك في عزلتك لأجل الكتابة ؟ هل تسمحين لنا بزيارة خاصة إلى محرابك ولو وصفا ؟.
أكتب حين يحلو لي وغالبا "في الليل لما خلي إلا من العاشق " حين يذهب البوم إلى صيد رزقه وأذهب لصيد الأبجدية ولا أشبع من اختراع المرافيء لأبطال قصصي وتخذلني المرافيء وأرحل لاختراع سواها.
وهكذا حين تبدو لي شقتي في باريس المطلة على نهر السين وبرج ايفل مزدحمة بالصلات اليومية الأليفة ، أهرب إلى شقة مفروشة أو إلى وكر الكتابة السويسري في شقة منعزلة بلا هاتف ولا فاكس بل تلفون الريح والليل وتغريد البوم ، فالكتابة عمل متوحش وغير اجتماعي ولا مجامل.
يوم تزوجت من الرائع بشير الداعوق وانتقلت للإقامة من فندق بسيط في حي " الاشرفية " البيروتي إلى بيته في قصر الداعوق ، قال الكثريون ستودع الادب وستتفرغ لمهنة " سيدة القصر".
لكنني بعدها بقليل كنت يوميا أودع عاملتين منزليتين لطيفتين عندي ويوصلني سائق زوجي إلى شقة مفروشة عارية لأسطر كتابي " رحيل المرافي القديمة " ، في مصعد المبنى التقيت في يومي الأول ( ومعي حقيبة كبيرة تضم أوراقي) بصديقة شامية تزور بيروت وسألتني بفرحة شامتة : هل تطلقت ؟ قلت لا ، إنني أكتب . ولم تفهم ما أعنيه ، كان جنوني الابجدي صعبا دوما على ( الابتلاع).
لكنني أعترف أنني أحب الكتابة كما أفعل الآن وأنا أخط لك هذه السطور ليلا كأية بومة متفائلة تذهب لتصطاد في غابة الأبجدية، أحب أيضا عيون أكثر من 700 بومة تحيط بي في بيتي ( بعضها من الفضة والرخام والسيراميك والخشب والعاج والذهب وحتى البوم المرسوم على قشرة بيضة وسواها لا يحصى) ومعظمها هدايا من كبار الأديبات والأدباء وبينهم من رحل عن عالمنا وبقيت البومة.
أعرف أنني حين أذهب إلى النوم ستطير كلها عبر نافذتي وتحلق فوق نهر السين وتتسامر مع تماثيل الشوارع الجميلة في باريس ، لكنها كالبنت "الشقية" تعود دائما قبل أن تستيقظ أمها وتكتشف غاراتها الليلية!.
·       رحل رفيقك في الكتابة والحياة قبل أربع سنوات من الآن تقريبا ، وكنت أهديته كتابك :" القب العاري ..عاشقا " كيف تتعايشين مع هذا الفقد، هل مازلت تجدين كل صباح فلة على وساتك ؟
هذا السؤال يمس وترا أليما شديد الحساسية من عمري ولن أنكر يوما مدى حزني الشاسع لخسارة رفيق عمري طوال أربعة عقود، بشير الداعوق كان صديقا حقيقيا لحرفي وداعما بلا ازدواجية يحمل لي الموسيقى والطعام أينما حللت لأكتب  وأتعايش بألم بالغ مع غيابه حتى اليوم.
فموت هذا الرجل ليس خسارة لي وحدي بل للمرأة العربية المبدعة والإنسانة ، ولن أنسى أنني حين أطلعته على رسائل غسان كنفاني وقلت له أنني سأقوم بنشرها عن " منشورات غادة السمان " قال لي بعد قراءتها أنه سينشرها عن داره العريقة " دار الطليعة " وأنه يرى فيها خطوة طليعية بيروغرافية يرغب في دعمها بغض النظر عن صلتنا الشخصية، وكان صدور رسائل غسان عن منشورات زوجي دعما استثنائيا لم تحظ بمثله أديبة عربية من زوجها.
وكل صباح، أجد على وسادتي فلة حب من رجل عربي رائع اسمه بشير الداعوق ولن أنسى يوما عطاءه لي وحرصه على أن أظل أكتب وأكتب ، وسأظل مدينة له بالوفاء متمنية لكل كاتبة عربية زوجا مثله يغضب إذا عاد إلى البيت ووجدني خلف طاولة المطبخ بدلا من طاولة الكتابة.

·       حين جاءتني فكرة اجراء هذا الحوار ذهبتُإلى مكتبتي، وفي زاوية صغيرة منها وجدت أني أحتفظ لكِ بـ 22 كتابا ، معظمها اقتنتيه والبقية جاءتني اهداءً من قبل بعض الأصدقاء ؟ حدثينا عن مكتبتك وماتحتويه، عن أهم قراءاتك مؤخرا ؟ مالذي يصلك من العالم العربي ابداعا ؟.
يصلني من العالم العربي الكثير ( هذا مع الشكر لمن يزودني بذلك ) وأحاول سد النقص بشراء الأعمال الجديدة التي تصدر وفي الحقول الفكرية كلها من روائية وقصصية وثقافية وفكرية ، لم ينهدم الجسر يوما بيني وبين الوطن ، فهو شريان العطاء الذي يرفد قلبي وأبجديتي، لكنني أطالع أيضا بنهم بالفرنسية والانجليزية ، وتظل ثقافتي التراثية التي حرص أبي على تزويدي بها شراعي في ابحاري عبر محيطات الثقافات والحضارات.
·       أكدت في أكثر من مناسبة أن الكتابة كطلقة رصاصة لايمكن استردادها بعد اطلاقها  ماالذي عزز جرأة غادة السمان في اطلاق رصاصات الكتابة دون الخوف من رائحة بارودها ودعاة حماية حقوق الموتى صمتا وخنوعا؟
مايبدو من الخارج ( جرأتي ) هو في جوهره عشقي للحقيقة والتالي للمجاهرة بها والوفاء لقيمتها ، فالاقنعة ليست مهنتي، ولست صيادة جوائز ، فجائزتي الدائمة هي وفائي لأبجديتي ولصدقها مع ذاتها والقاريء، ولذا لم أرشح نفسي يوما لجائزةعربية، فالجائزة عطاء لا "استعطاء" وحين أنجز عملي الحالي عن روايتي الجديدة ( المشاغبة ) سأعود للعمل في الصحافة لكتابة عمود دوري فالتواصل مع القاريء بإيقاع شبيه بإيقاع القلب ينعش أبجديتي الروائية والشعرية.
·       مايكتب في الرواية والقصة اليوم في الوطن العربي ، كيف تجده غادة السمان ؟
أجد معجمه نضراً وحياً ويسيل موهبة وعطاء وأفرح كلما قرأت جديدا مبدعا واحتفي بكاتباته وكتابه في عمودي الأسبوعي الذي توقف منذ عام لوفاة منبري في مجلة "الحوادث" ولكنني سأعود للكتابة في منبر آخر كما ذكرت لك حين أنجز عملي الروائي الحالي :" فسيفساء دمشقية 2"، أحب كثيرا دعم الأديبات الشابات لانني أعرف أن معاناتهن مضاعفة وعلى عدة جبهات وأفرح حين أكتشف قلما مبدعا، وإذا كان لأنثى أضاعف دعمي لها كما لوكانت ابنتي أبجدياً، فأنا أعرف من تجربتي الشخصية كثرة الرماح المصوبة لإمكانية تدفقها عطاء .

·       في آخر هذا الحوار، أي متعة تمنحك إياها المطارات ؟ هل يرفد السفر الكتابة ؟ ألم يحن الوقت بعد لان تستقر غادة في دمشق أو بيروت ؟ هل تفكرين في ذلك ؟
لعل حبي للسفر جزء من وعيي الدائم بأن " الجسد حقبة سفر" عابرة من الولادة إلى الموت ( وهي رحلة قصيرة جدا من عمر الزمن السرمدي).
تسألين هل أفكر بالاستقرار في دمشق أو بيروت ؟ لقد حان الوقت لذلك من زمان ولكن من يقنع بومة هائمة مثلي بذلك؟ ولعلي الكاتبة العربيةالوحيدة التي أصدرت خمسة كتب في حقل أدب الرحلات هي : الجسد حقيبة سفر – شهوة الأجنحة – غربة تحت الصفر- رعشة الحرية- القلب نورس وحيد – ولدي كتاب جديد جاهز للنشر في حقل أدب الرحلات وكلها ينظر إلى الدنيا بعين عربية خالية من الانبهار أو التحامل.
وعلى أية حال، من يدري أين سأستقر ذات يوم وبلا د العرب أوطاني ؟.

الاثنين، ٢٦ آذار ٢٠١٢

أشهد بالسفن الغاربة


لماذا كلما تذكرتك
اسمع صوت السفن الغاربة
عن شواطئ أحبتها
و هي تطلق صرخات الوداع
مثل طيور استوائية
فاجأها اعصار الطوفان ...
هل يعني ذلك أنني .. أحبك  ؟!!

غادة السمان





الثلاثاء، ٢٩ تشرين الثاني ٢٠١١

عاشقة المخاطر الشهية


لا عرش لي غير فضائي..
لا صوت غير صمت رياحي...
ياسمين الوطن، وغابات التشرّد
قرع الطبول، وثرثرة الببغاوات
واشتعال القلب على بشرة الشواطئ المتوردة...
وبطاقة بريدية،
أسطِّر عليها عبارة "أحبك" بكل صدق
ولا أعرف إلى من أرسلها!!...

***

أعيش حبَّاً على غير هدى..
حبَّاً ماكر الأفراح، متأرجحاً داخل مراياه
كالمدن المشيدة فوق الماء..
فهل تجرؤ على أن تمد يدك،
وتفتح ظل الباب المتماوج فوق صفحة المياه
وتقبلَه مني ذلك الحب الضال كوردة سوداء،
في ليل المخاطر الشهية لامرأة زئبقية الأمزجة
تعشق الحب وتكره الحبيب؟...أو تكاد!..
حين يكون إخلاصي لك، خيانة لذاتي
أشهر صدقي في مملكة التقاليد.. وأعلن أظافري..
ومن أعماق وحدتي أنادي الحب، وأطرد الحبيب..
لأغني على عود بلا وتر
أعذب الأغنيات التي طالما انتحبها ناي القلب
بصمت وحشته وبتأجج جوعه إلى المجهول.. والدهشة
بعيداً عن القصب الفصيح لغابات الرياء..

***

تلك الطفلة،
وجدتْ نفسها فجأة متنكّرة داخل جسدي..
متنكّرة داخل عمري واسمي وشهرتي..
ساقطة في شرك أدواري
تجلدها أمزجتي الزئبقية وحكايا حبي الغامضة...
لكنها لا تزال كل ليلة،
تهرب مني حين أنام،
وتفتح باب الكهف
لتهرول وحيدة في كوكب الحلم
دون أن تضلّ الطريق إلى القمر...

***

لأنني سبحت إلى أبعد ما يمكنني في البحر
لأنني نبذت أطواق النجاة
ومراكب خطوط الرجعة..
لأنني كنت صادقة
في حكاية حبي مع أسرار الأعماق وجموح الأمواج
وقارات الدهشة المحفوظة في كتاب القاع
وجدت نفسي حين تعبت وغرقت
وحيدة مع الشماتة والإعياء والدوار وأسماك القرش..
وحين نجوت وعدت،
استقبلوني كالفاتحين!...
هكذا تقضي قواعد اللعبة في مملكة السردين!..

***

أتأمل دمي،
وهو يغادر ذلك الجرح الصغير
في إصبعي، ويسيل بهدوء، ربما إلى ما لا نهاية..
وأكتشف فجأة،
أن كوني كله،
ليس أكثر من منطاد هشّ
سيدمّر تحليقَه ثقبٌ صغير..

غادة السمان
7-1-1989





Share | مشاركة

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More